فرنسا وكأس العالم: بين عبقرية الأفراد ومزاج الأمة
إذا كانت بعض المنتخبات تُبنى على الصرامة والانضباط، فإن منتخب فرنسا لطالما عكس مزاج أمّته: عاطفي، متناقض، موهوب بشكل خارق، لكنه أحيانًا مُربك وغير متّزن.
قصة فرنسا مع كأس العالم ليست فقط سلسلة من النتائج، بل هي مرآة لتحولات اجتماعية وثقافية، تبدأ من عنفوان زيدان، إلى برودة مبابي، ومن خيبة 2010 إلى سحر 2018.
في هذا المقال التحليلي المطوّل، نستعرض كيف سطّر الديوك الفرنسية رحلتهم في المونديال، ما بين المجد، الانهيار، والتجدد.
البدايات: المشاركة دون بريق (1930 – 1978)
كانت فرنسا من المنتخبات المؤسسة لكأس العالم، إذ شاركت في النسخة الأولى عام 1930 في الأوروغواي، لكنها لم تتجاوز الدور الأول.
وفي النسخ التالية، عجز المنتخب عن فرض نفسه كقوة كروية، رغم محاولات فردية من نجوم مثل جاست فونتين، الذي سجّل 13 هدفًا في مونديال 1958 (رقم لم يُكسر حتى اليوم)، وقاد فرنسا إلى المركز الثالث.
لكن باستثناء ذلك، كانت فرنسا تعاني من عدم الاستقرار التكتيكي، وضعف البنية الكروية مقارنة بجيرانها ألمانيا وإيطاليا.
الثمانينيات: جيل بلاتيني والكرة الجميلة
تغير كل شيء في ثمانينيات القرن الماضي مع ظهور الجيل الذهبي بقيادة ميشيل بلاتيني.
قدّمت فرنسا آنذاك أحد أروع أشكال كرة القدم، بل يُنظر إلى مونديال 1982 على أنه أحد أجمل نسخ البطولة بفضل أداء الفرنسيين.
لكن الديوك خرجوا حينها من نصف النهائي بطريقة درامية أمام ألمانيا في واحدة من أعظم مباريات المونديال (3-3 ثم ركلات ترجيح).
وفي مونديال 1986، تكرر الوصول إلى نصف النهائي، لكن مرة أخرى توقّف الحلم أمام ألمانيا.
رغم عدم الفوز، إلا أن تلك المرحلة كرّست فرنسا كمنتخب جميل، يهاجم ببراعة ويملك هوية كروية واضحة.
1998: المجد على أرض الأحلام
جاء مونديال 1998 في فرنسا وسط آمال وضغوط كبيرة. جيل من النجوم بقيادة زين الدين زيدان، ديسايي، هنري، وبارتاز، ومدرب ذكي اسمه إيميه جاكيه، وعد بتحقيق الحلم الذي طال انتظاره.
قدّمت فرنسا بطولة متكاملة دفاعيًا وتكتيكيًا، لكن لمعة المجد تألقت في نهائي باريس، عندما سجّل زيدان هدفين بالرأس أمام البرازيل، في فوز كاسح 3-0.
كان ذلك الانتصار تاريخيًا، ليس فقط لأنه أول لقب مونديالي، بل لأنه أظهر تنوع فرنسا الثقافي، بجيل من أصول متعددة صنع مجد الأمة.
2006: السحر الأخير لزيدان والوداع المرّ
بعد إخفاق 2002 (خروج من الدور الأول دون أهداف)، عاد زيدان من الاعتزال ليقود فرنسا في مونديال 2006.
أدى المنتخب بداية متواضعة، لكنه انفجر في الأدوار الإقصائية، خاصة أمام البرازيل في ربع النهائي، حين قدّم زيدان واحدة من أروع مبارياته.
بلغت فرنسا النهائي أمام إيطاليا، وسجل زيدان هدفًا رائعًا من ركلة جزاء على طريقة بانينكا، لكن مسيرته انتهت ببطاقة حمراء شهيرة بعد نطحة ماتيراتزي.
خسرت فرنسا بركلات الترجيح، لكن صورتها البطولية لم تتأثر، بل زاد الإعجاب بجيل قاتل حتى اللحظة الأخيرة، kooralive.
2010: الانهيار الأخلاقي قبل الرياضي
جاء مونديال 2010 في جنوب أفريقيا ككارثة كروية كاملة.
خرجت فرنسا من الدور الأول بعد خلافات علنية بين المدرب دومينيك واللاعبين، وتمرد داخل المعسكر، وفضائح إعلامية.
تحوّلت فرنسا من بطلة إلى أضحوكة، وبدأت الصحافة تشكك في الهوية والانضباط، مما استدعى تدخل الاتحاد لتطهير المنظومة الكروية.
من الدمار إلى القمة: مشروع ديشان
تولى ديدييه ديشان قيادة المنتخب بعد يورو 2012، وبدأ مشروع إعادة بناء على أسس الانضباط والواقعية.
في مونديال 2014، ظهرت بوادر التحسن، وخرجت فرنسا من ربع النهائي ضد ألمانيا بصعوبة.
لكن القفزة الكبرى جاءت في مونديال روسيا 2018، حين قاد ديشان جيلاً شابًا من مبابي، غريزمان، كانتي، بوغبا، فاران، نحو لقب مستحق.
قدّمت فرنسا بطولة تكتيكية بامتياز، توازن مثالي بين الدفاع والهجوم، واستخدم ديشان قدرات لاعبيه الفردية لتطويعها في خدمة الجماعية.
النتيجة: فوز تاريخي على كرواتيا في النهائي (4-2) وتتويج باللقب الثاني بعد 20 عامًا من 1998.
2022: محاولة الحفاظ على العرش
رغم الإصابات الكبيرة في صفوف المنتخب قبل مونديال قطر 2022، قدمت فرنسا أداءً بطوليًا.
قاد كيليان مبابي الفريق، وسجّل هاتريك في النهائي ضد الأرجنتين، لكن الحظ لم يكن معهم في ركلات الترجيح.
كانت تلك المباراة واحدة من أعظم نهائيات كأس العالم، وأثبتت أن فرنسا لم تعد فقط منتخبًا موهوبًا، بل منتخبًا ناضجًا وقادرًا على الاستمرارية.
فرنسا القادمة: هل من ثلاثية قادمة؟
فرنسا تملك اليوم توليفة مرعبة من المواهب الشابة: كامافينغا، تشواميني، كولو مواني، ساليبا، وزاير إيمري.
ومع استمرارية ديشان، والهيمنة المحلية على بطولات الفئات العمرية، يبدو أن فرنسا مهيأة للعب دور كبير في مونديال 2026.
ماذا تميزت به فرنسا في رحلتها المونديالية؟
- موهبة فردية خارقة (زيدان، هنري، مبابي).
- تقلبات مزاجية حادة بين المجد والانهيار.
- مشروع تجديد ناجح بقيادة ديشان.
- قدرة على تحويل الأزمات إلى فرص نهوض.